فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ}
الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون، وحكمه عام في جميع الكفار {مِّن قُوَّةٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي» {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} قال الزمخشري: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.
وقال ابن عطية: رباط الخيل جمع ربط أو مصدر {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} يعني الكفار {وَآخَرِينَ} يعني المنافقين: وقيل: بني قريظة، وقيل: الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل، وقيل: فارس، والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} قال السهيلي: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله تعالى قال: {لا تعلمونهم}، فكيف يعلمهم أحد، وهذا لا يلزم، لأن معنى قوله لا تعلمونهم: لا تعرفونهم: أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس، ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فيه ست مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوّة للأعداء بعد أن أكّد تقدمة التقوى.
فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتَّفْل في وجوههم وبحَفْنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكنه أراد أن يبتَلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ.
وكلما تعدّه لصديقك من خير أو لعدوّك من شر فهو داخل في عدّتك.
قال ابن عباس: القوّة هاهنا السلاح والقِسِيّ.
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وأعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة} ألاَ إن القوة الرّميُ ألاَ إن القوة الرّميُ ألاَ إن القوة الرّمي» وهذا نصٌّ رواه عن عقبة أبو عليّ ثمامةُ بن شُفَيٍّ الهَمْدانيّ، وليس له في الصحيح غيره.
وحديث آخر في الرّمي عن عقبة أيضًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَتُفتح عليكم أرَضُون ويكفيكم الله فلا يَعْجِز أحدكم أن يَلْهُوَ بأسهمه» وقال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ شيء يَلْهُو به الرجل باطل إلا رَمْيَه بقوسه وتأديبَه فرسَه وملاعبته أهلَه فإنه من الحق» ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهّى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدةً فهو باطل، والإعراض عنه أوْلى.
وهذه الأُمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهّى بها ويَنْشَط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعًا من مَعاوِن القتال.
وملاعبة الأهل قد تؤدّي إلى ما يكون عنه ولد يوحّد الله ويعبده؛ فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق.
وفي سنن أبي داود والترمذيّ والنَّسَائِيّ عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامِي ومُنْبَله» وفضل الرّمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين.
قال صلى الله عليه وسلم: «يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميًا» وتعلُّم الفروسِيّة واستعمالُ الأسلحة فرض كفاية وقد يتعيّن.
الثانية قوله تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} وقرأ الحسن وعمرو بن دِينار وأبو حَيْوَةَ {ومِن رُبُط الخيل} بضم الراء والباء، جمع رباط؛ ككتاب وكُتُب قال أبو حاتم عن ابن زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته رُبُط.
وهي التي ترتبط؛ يقال منه: رَبط يرْبِط ربْطًا.
وارتبط يرتبط ارتباطا.
ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدوّ.
قال الشاعر:
أمر الإله برَبْطها لعدوّه ** في الحرب إنّ اللَّه خير موفِّقِ

وقال مكحول بن عبد الله:
تلومُ على رَبْطِ الجياد وحَبْسِها ** وأوْصَى بها اللَّهُ النبيَّ محمدًا

ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة.
وكان لعُروة البارِقيّ سبعون فرسًا مَعدّة للجهاد.
والمستحب منها الإناث؛ قاله عكرمة وجماعة.
وهو صحيح؛ فإن الأُنثى بطنها كنز وظهرُها عِزّ وفرس جبريل كان أُنثى.
وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وِزر» الحديث.
ولم يخص ذكرًا من أُنثى.
وأجودها أعظمها أجرًا وأكثرها نفعًا.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الرقاب أفضلُ؟ فقال: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» وروى النَّسائيّ عن أبي وهب الجُشَمِيّ وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا بأسماء الأنبياء وأحبُّ الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار وعليكم بكل كُمَيت أغرَّ مُحَجَّل أو أشقر أغرّ محجّل أو أدهم أغر محجل» وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير الخيل الأدهمُ الأقْرَحُ الأرْثَم ثم الأقرح المحجَّل طَلْق اليمين فإن لم يكن أدْهَمَ فكُميت على هذه الشِّيَة» ورواه الدارميّ عن أبي قتادة أيضًا، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أُريد أن أشتري فرسًا، فأيّها أشتري؟ قال: «اشتر أدهَم أرْثم محجّلًا طَلْق اليد اليمنى أو من الكُميت على هذه الشِّيَة تَغْنم وتسلم».
وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشِّكال من الخيل والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى.
خرّجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويذكر أن الفرس الذي قُتل عليه الحسين بن عليّ رضي الله عنهما كان أشكل.
الثالثة فإن قيل: إن قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} كان يكفي؛ فلِمَ خص الرّمي والخيل بالذكر؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عُقِد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوّة وأشد العُدّة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصّها بالذكر تشريفًا، وأقسم بغبارها تكريمًا.
فقال: {والعاديات ضَبْحًا} [العاديات: 1] الآية.
ولما كانت السّهام من أنجع ما يُتعاطى في الحروب والنِّكايةِ في العدوّ وأقربِها تناولًا للأرواح، خصّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها.
ونظير هذا في التنزيل؛ {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ومثلُه كثير.
الرابعة وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عُدّة للأعداء.
وقد اختلف العلماء في جواز وقف الحيوان كالخيل والإبل على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة.
والصحة، وبه قال الشافعيّ رضي الله عنه.
وهو أصح؛ لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» الحديث.
وما رُوي أن امرأة جعلت بعيرًا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ادفعيه إليه ليحُج عليه فإن الحج من سبيل الله» ولأنه مال يُنتفع به في وجه قُربة؛ فجاز أن يوقف كالرِّباع.
وقد ذكر السُّهيليّ في هذه الآية تسمية خيلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآلة حربه.
من أرادها وجدها في كتاب الأعلام.
الخامسة قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} يعني تُخيفون به عدوّ الله وعدوّكم من اليهود وقريش وكفار العرب.
{وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} يعني فارس والروم؛ قاله السُّدِّي.
وقيل: الجنّ.
وهو اختيار الطبري.
وقيل: المراد بذلك كلُّ من لا تُعرف عداوته.
قال السُّهيلِيّ: قيل هم قُريظة.
وقيل: هم من الجنّ.
وقيل غير ذلك.
ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء؛ لأن الله سبحانه قال: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}؛ فكيف يدّعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية: «هم الجنّ».
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان لا يخبلُ أحدًا في دار فيها فرس عتيق» وإنما سُمّيَ عتيقًا لأنه قد تخلّص من الهِجانة.
وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أُسامة عن ابن المُلَيْكي عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي: أن الجنّ لا تقرب دارًا فيها فرس، وأنها تنفِر من صَهيل الخيل.
السادسة قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ} أي تتصدّقوا.
وقيل: تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم.
{فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
{وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} المخاطبةُ في هذه الآية لجميع المؤمنين، وفي صحيحِ مُسْلِمْ: «أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْي» ولما كانت الخيلُ هي أصْل الحرب، وأَوزَارَهَا، والتي عُقِدَ الخيرُ في نواصيها، خَصَّها اللَّه تعالى بالذكْرِ، تشريفًا لها، ولما كانت السهامُ من أنجع ما يُتعاطَى في الحرب وأَنْكَاه في العدو وأَقْربه تناولًا للأرواح، خَصَّها صلى الله عليه وسلم بالذكْرِ والتنبيهِ عليها.
ت: وفي صحيح مسلم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ، وَتَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَو قَدْ عَصَى»، وفي سنن أبي داودَ، والترمذيِّ، والنسائيِّ، عن عُقْبة بن عامر، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخلُ بالسَّهْم الوَاحِدِ ثَلاَثَةَ أَنُفُسٍ الجَنَّة؛ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، فارموا واركبوا، وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَن تَرْكَبُوا، كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ، بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهَ بَقْوسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ امرأته» انتهى.
ورباطُ الخيل: مصدَرٌ مِنْ رَبَط، ولا يكثُرُ رَبْطُها إِلاَّ وهيَ كثيرةٌ، ويجوز أنْ يكون مصدرًا من رَابَطَ، وإِذا رَبَطَ كلُّ واحد من المؤمنين فرسًا لأجل صاحبه، فقد حَصَلَ بينهم رباطٌ، وذلك الذي حضَّ عليه في الآية، وقد قال عليه السلام: «مَنْ ارتبط فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَالبَاسِطِ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ لاَ يَقْبِضُهَا»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ.
ت: وقد ذكرنا بعْضَ ما وردَ في فَضْلِ الرباط في آخر آل عمران؛ قال صاحبُ التذكرة: وعن عثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ؛ صِيَامِهَا وَقِيَامِهِا»، وعن أبي بن كعب، قال: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَربَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَة المُسْلِمينَ مُحْتَسِبًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَان- أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ؛ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان- أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وأَعْظَمُ أَجْرًا- أَراهُ قَالَ: مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِيْ سَنَةٍ؛ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا- فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ سالِمًا، لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ أَلْفَ سَنَةٍ، ويُكْتَبُ لَهُ مِنَ الحَسَنَاتِ، وَيَجْرِي لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، قال القرطبيُّ في تذكرته: فدلَّ هذا الحديثُ على أن رباط يومٍ في رمضانَ يحصِّل له هذا الثوابَ الدائمَ، وإِنْ لم يَمُتْ مرابطًا. خرَّج هذا الحديث، والذي قبله ابنُ مَاجَه. انتهى من التذكرة.
و{تُرْهِبُونَ}: معناه: تخوِّفون وتفزِّعون، والرهبة: الخَوْف: وقوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ}، فيه أقوال: قيل: هم المنافِقُونَ، وقيل: فَارس، وقيل: غير هذا.
قال ع: ويحسُنُ أن يقدَّر قوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}، بمعنى: لا تَعْلَمُونهم فَازِعِينَ رَاهِبينَ.
وقال ص: لا تعلمُونَهُمْ بمعنى: لا تَعْرِفُونهم، فيتعدَّى لواحدٍ، ومَنْ عدَّاه إِلى اثنين، قدَّره: محاربين، واستُبْعِدَ؛ لعدم تقدُّم ذكره، فهو ممنوعٌ عند بعضهم، وعزيزٌ جدًّا عند بعضهم انتهى. اهـ.